التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سَاعةَ الفرُّوجِ للكاتب عبد السميع بنصاير

في السُّوق قلَّبَ أبي سَاعةَ الفرُّوجِ في يَدِه طويلاً تحْتَ أنظار البائع ثمَّ تطلَّع إليه مُتسائلاً:- وهاْد المَكَانة ديال الما؟
لَم أفهَم قَصدَهُ، لكنَّ البائع شَرحَ لهُ بأنَّ هذا السؤالَ يُطرَحُ عادةً فقطّ إذا تعلّقَ الأمرُ بسَاعة اليَد لاحتمال تعرُّضها لِماء الوُضوء مثلاً، أمّا ساعَة الفرُّوج فلا توضَعُ على اليد، بل داخل الدّولاب. وقَبْلَ أن يَشرحَ البائعُ الأمرَ، اعتَقدتُ أنّ أبي قصَد هل تحتاجُ هذه السّاعةُ ملْأها بالماء عِوضَ البطّاريّة حتّى يتسنّى للدّيك الصّغير الذي كان يتوسّط دائرة الأرقام الشُرب حتى لا يموت عطشاً..
أمّا السّاعةُ اليدويّةُ، فكانت من مظاهر الرفاهيّة تلك الأيّام، إذ كانَتْ حكراً فقطّ على الكبار أو أبناء المدينة الذين كانوا يزورون قريَتنا صيفاً.. لذلك بكيت.. بكيتُ كثيراً فعضَّتني أختي الكُبرى على ظهر معصَمي برفق مُخلّفَة دائرة بأسنانها، وأشارَت إليها قائلة "اُنظر.. يالله.. ها أنتَ أيضاً تملكُ ساعة !"..
لَم تدُم فرحَتي طويلاً، إذا سَرعان ما انمحَتْ "السّاعَةُ" من مِعصَمي فعوَّضَتْها أختي هذهِ المرَّةُ بساعَة رَسمَتْها على جلدي بِقَلم حبر جافّ.. الأمرُ الّذي جعَلني أُهملُ غَسْلَ يدي أياماً خِشْيَة أن تختفي ساعتي، لكنّها انمَحَت مع ذلك فوَجدتُني أبكي مرة أُخرى..
ودسَّت جدّتي ذاتَ مساء في يدي حَفنَة من "فَنيــدِ المكَانة" الّذي كنتُ أكتشِفُه لأوّل مرّة:
- هاكْ آوليدي.. شُوف دابا شْحالْ من ساعة عندك..
كانَ الفَنيدُ عبارَة عن أقراص من الحلويات الملوّنة، وقَد رُسِمَت عليها الأرقام والعقارب.. في الخلاء، ناوَلتُ حليمة (ابنَة الجيران) بعضَ الأقراص، ورُحنا نسألُ بعضَنا عن الوقتِ ثم نُجيب إلى أنْ تحلّبَ ريقُنا، فأكلنا كُلّ ما كانَ بِحوْزَتِنا من ساعات ثمّ بكيتُ قبل أن أُبرحَ حليمة ضرباً لأنّها أكلَتْ أيضاً ساعاتي.. وعندما بكَتْ أيضاً تركتُها في الخلاء وهرَبْت..
في الصّباحِ انتظرتُها في الزُقاق لنذهَب للّعِب خلفَ الجبَل، لكنّها خشِيَتْ أن أنفَردَ بها في الخلاء وأضرِبَها مرّة أُخرى، فأقْسمتُ لها بـ"ـستّة وستّين حزباً" أنّني لن أفعل.. وعندما وافَقتْ أحضرتُ عُلبَة السّردين الصّدئة وغيّرتُ العجلات مُستعملاً في ذلكَ سدّادات قناني زَيْت جديدة.. وملأت حليمة العُلبَة بعرائسها القصبيّة الصغيرة.. وقَبل أن أجرّ العربَة بخيط طويل، طلَبتُ منها أن تصْعَد معي "السّيارة"، فأمسَكَت قميصي من دُبر ثمّ اتجَهنا إلى الجبل..
كانَ أوّلُ شيء صنعتُه هناك أن بنيتُ لنا منزلاً من الوحل والقشّ دخلَتهُ حلميةُ ورتّبَتْ عرائسَها داخِلَه.. وقالَتْ وهي تلتهمُ حبّات النّبق الّتي جمعناها في الطّريق إنّ عليَّ أن أُحضِرَ شيئاً تطبخُه كما يفعلُ الأزواج الكبار..
لستُ أدري أي شيطان أوحى لي بالعودة إلى المنزل لأحضرَ خُفية السّاعةَ التي اقتناها أبي قبل أيام من السُوق.. في الخلاء أشَرتُ إلى الدّيك الذي لم يتوقّف أبدا عن النُّقب قائلاً لحليمة:
- ستطبُخينَ لنا هذا الدّيك بعدما أذبحه الآن..
كسرتُ زُجاج السّاعة بحجر كبير، وقبل أنْ أُخرجَ الدّيك من بين الأرقام سَرسَرَتِ السّاعةُ فجأةً بصوت عال، ولَم تكن حليمة قد سمعتها من قبل.. فقفَزتْ من مكانها في فزَع شديد، وعندما ركَضَتْ حافية، تعثّرت بصخرة، فتَدحرَجت بين الأشواك والأحجار وسالَ الدّمُ من جبهتها.. كُلّ ذلك وهي تصرخُ في هلع شديد.. كنتُ أحاولُ إسكاتَ سَرسَرة السّاعة وأنا أخبطُها على الأرض بقوّة.. وعندما فشلت مُحاولاتي في ذلك، رميتُ بها..
حاولتُ اللحاقَ بحليمة، لكنّها كانَتْ قَد رَكضَتْ بعيداً.. وأنا أدوس الأحجار جرياً، تساءلتُ هَلْ ستُخبرُ حليمةُ أمّي أنّني أفزعتُها في الخلاء أم بأنّني قمتُ بتكسير ساعة الفرّوج.. وتفادياً لأيّ عقاب مُحتَمل، غيّرتُ وجهتي إلى "جْنان" قريب لأختفي بينَ أشجاره حتّى يَحُلَّ اللّيل..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مختصر تفسير الحزب الأول... سورة البقرة الجزء الأول

الجزء الأول من القران: هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع: - ربع الحزب الأول: يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف. - الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام. - الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.  - الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف.  تجربة سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض. ثم بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف! وآخر ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة الفاشلة، للت
"ميسرة المطغريّ" (أو المدغريّ) بطلٌ أمازيغيٌّ، رفض الانصياع للعرب الفاتحين، ما جعلهم يصفونه في كتب تاريخهم بالحقير، والخفير، والفقير، والسقّاء. ولربّما ترجع هذه الألقاب إلى كون "ميسرة" ينحدر من عائلةٍ فقيرةٍ، وأنّ أباه، أو هو نفسه كان سقّاءً يبيع الماء في الأسواق (E. L?vi-Proven?al). وقد أجمع أكثر المؤرّخين (العرب طبعاً) على تلقيب ميسرة بـ "الحقير"، على الرغم من أنّه لم يكن في حياته حقيراً؛ فقد كان ـ كما يقول ابن خلدون ـ شيخ قبيلته والمقدّم فيها؛ وكان من خوارج المغرب الصفريّة، من مدغرة أو (مطغرة)، وهي بطنٌ من زناتة. كما كان من أتباع المهلّب بن أبي صفرة (أو من أتباع زياد بن أبي صفرة). وفي العودة إلى الوقائع التاريخيّة، نجد أنّ الظلم الأمويّ كان من الأسباب المهمّة في بحث المسلمين عموماً عن أفكارٍ ثوريّةٍ تُشرّع لهم مواجهة الظّلم والتعصّب القوميّ والقبائليّ، وهو ما تُظهره تجربة البربر في الغرب، حين مالوا إلى الفكر الخارجيّ، بعد معاناةٍ طويلةٍ مع السلطة الأمويّة، وبعد الإجحاف الذي طالهم، إثر دورهم الرئيسيّ في فتح الأندلس، وفي تثبيت