التخطي إلى المحتوى الرئيسي






"ميسرة المطغريّ" (أو المدغريّ) بطلٌ أمازيغيٌّ، رفض الانصياع للعرب الفاتحين، ما جعلهم يصفونه في كتب تاريخهم بالحقير، والخفير، والفقير، والسقّاء. ولربّما ترجع هذه الألقاب إلى كون "ميسرة" ينحدر من عائلةٍ فقيرةٍ، وأنّ أباه، أو هو نفسه كان سقّاءً يبيع الماء في الأسواق (E. L?vi-Proven?al). وقد أجمع أكثر المؤرّخين (العرب طبعاً) على تلقيب ميسرة بـ "الحقير"، على الرغم من أنّه لم يكن في حياته حقيراً؛ فقد كان ـ كما يقول ابن خلدون ـ شيخ قبيلته والمقدّم فيها؛ وكان من خوارج المغرب الصفريّة، من مدغرة أو (مطغرة)، وهي بطنٌ من زناتة. كما كان من أتباع المهلّب بن أبي صفرة (أو من أتباع زياد بن أبي صفرة).

وفي العودة إلى الوقائع التاريخيّة، نجد أنّ الظلم الأمويّ كان من الأسباب المهمّة في بحث المسلمين عموماً عن أفكارٍ ثوريّةٍ تُشرّع لهم مواجهة الظّلم والتعصّب القوميّ والقبائليّ، وهو ما تُظهره تجربة البربر في الغرب، حين مالوا إلى الفكر الخارجيّ، بعد معاناةٍ طويلةٍ مع السلطة الأمويّة، وبعد الإجحاف الذي طالهم، إثر دورهم الرئيسيّ في فتح الأندلس، وفي تثبيت أركان الدعوة الإسلاميّة على شاطئي المتوسّط.

وفي التاريخ، أنّه لمّا تولّى عمر بن عبدالعزيز الخلافة، عيّن لولاية المغرب إسماعيل بن عبدالله ابن أبي المُهاجر دينار، الذي تفانى في نشر الإسلام وتعليم البربر مبادئ الدين الحنيف. ولمّا توفّي عمر بن عبدالعزيز تولّى بعده اليزيد بن عبدالملك، الذي قام بتعيين يزيد ابن أبي مسلمة على المغرب، وسار بالبربر بسيرةٍ جائرةٍ، فقتله البربر، وقاموا بتعيين محمد بن يزيد القرشيّ. ثمّ عيّن الخليفة الأمويّ، اليزيد بن عبد الملك، بشر بن صفوان الكلبيّ، ثمّ عبيدة بن عبد الرّحمن السلميّ. وكان عبيدة السلميّ ظالماً هو وعمّاله. وفي عهد هشام بن عبد الملك عزله، وولّى بدلاً منه عبيد الله بن الحبحاب السلميّ، الذي كان جائراً هو الآخر مع البربر، ممّا أدّى إلى قيام الثورات والفتن في المغرب، وظهور فرقة الخوارج.

وأرسل البربر ميسرة المطغريّ على رأس وفدٍ إلى الشّام لمقابلة الخليفة. وكان وزير هشام بن عبدالملك الأبرش الكلابيّ، وهو على ما هو من التّكبّر والطغيان، فمنعهم من مقابلة الخليفة، ما أغضب الوفد، الذي كان يقوده "ميسرة"، وعادوا إلى أفريقيا، وأعلنوا الثورة، وقتلوا عامل هشام بن عبدالملك، وظهرت دعوة الخوارج الصفريّة، وتولّى أمرهم "ميسرة".

ويقول "ابن خلدون"، في قبيلة مطغرة، وابنها المدافع عنها ميسرة المطغريّ:"كان جمهورهم بالمغرب، منذ عهد الإسلام، ونوبة الفتح، وشؤون الرّدة وحروبها، وكان لهم فيها مقامات‏.‏ ولمّا استوثق الإسلام في البربر، أجازوا إلى فتح الأندلس، وأجازت منهم أممٌ، واستقروا هنالك‏.‏ ولما سرى دين الخارجيّة في البربر، أخذ "مطغرة" هؤلاء برأي الصفريّة‏.‏ وكان شيخهم "ميسرة"..‏.‏ ولمّا وُلّي عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية، من قبل هشام بن عبد الملك، وأمره أن يمضي إليها من مصر، فقدمها سنة 114 هـ، واستعمل عمر بن عبد الله المراديّ على طنجة والمغرب الأقصى، وابنه إسماعيل على السوس وما وراءه‏.‏ واتّصل أمر ولايتهم وساءت سيرتهم في البربر، ونقموا عليهم أحوالهم، وما كانوا يُطالبونهم به من الوصائف البربريّات، والأفرية العسليّة الألوان، وأنواع طرف المغرب، فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحاله‏.‏ حتى كانت الصرمة من الغنم تُستهلك بالذّبح، لاتّخاذ الجلود العسليّة من سخالها، ولا يوجد فيها مع ذلك إلّا الواحد وما قرب منه‏.‏ فكثُر عيثهم بذلك في أموال البربر، وجورهم عليهم. امتعض لذلك ميسرة الحفيد، زعيم مطغرة، وحمل البربر على الفتك بعمر بن عبد الله، عامل طنجة، فقتلوه سنة خمس وعشرين‏.‏

وولّى "ميسرة" مكانه عبد الأعلى بن خدع الإفريقيّ الروميّ الأصل، وكان من موالي العرب وأهل خارجيّتهم، وكان يرى رأي الصفريّة، فولّاه "ميسرة" على طنجة، وتقدّم إلى "السوس"، فقتل عامله إسماعيل بن عبد الله، واضطرم المغرب ناراً‏.‏ وانتقض أمره على خلفاء المشرق، فلم يُراجع طاعتهم بعد‏.‏ وزحف "ابن الحبحاب" إليه، من القيروان، في العساكر، وعلى مقدّمته خالد بن أبي حبيب الفهريّ، فلقيهم "ميسرة" في جموع البرابرة، فهزم المقدّمة، واستلحمهم، وقتل خالد‏.‏ وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر، فثاروا بعاملهم عقبة بن الحجاج السلوليّ، وعزلوه، وولّوا عبد الملك بن قطن الفهريّ، وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك، فسرّح كلثوم بن عيّاض في اثني عشر ألفاً من جنود الشّام، وولّاه على إفريقية، وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب‏.‏

وزحف كلثوم إلى البرابرة، سنة 123 هـ، حتّى انتهت مقدّمته إلى "وادي سبو" من أعمال طنجة، فلقيه البرابرة هنالك مع "ميسرة"، وقد فحصوا عن أوساط رؤوسهم، ونادوا بشعارٍ، وكان كيدهم في لقائهم إيّاه أنْ ملؤوا الشنان بالحجارة، وربطوها بأذناب الخيل تُنادي بها، فتقعقع الحجارة في شنانها، ومرّت بمصاف العساكر من العرب، فنفرت خيولهم، واختلّ مصافهم، وانجرّت عليهم الهزيمة، فافترقوا، وذهب بلج مع الطلائع من أهل الشّام إلى "سبتة"... ورجع إلى القيروان أهل مصر وإفريقية، وظهرت الخوارج في كلّ جهةٍ، واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء‏.‏ (تاريخ ابن خلدون).

وبايع "ميسرة" لنفسه بالخلافة، داعياً إلى نحلته من الخارجيّة على مذهب الصفريّة، ثمّ ساءت سيرته، فنقم عليه البربر، بسبب ما جاء به، فقتلوه وقدّموا على أنفسهم "خالد بن حميد الزناتيّ"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مختصر تفسير الحزب الأول... سورة البقرة الجزء الأول

الجزء الأول من القران: هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع: - ربع الحزب الأول: يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف. - الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام. - الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.  - الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف.  تجربة سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض. ثم بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف! وآخر ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة الفاشلة، للت