التخطي إلى المحتوى الرئيسي
يطرح تاريخ التفكير الديني والاجتماعي والسياسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة مجموعة من المفاهيم والموضوعات والأطروحات المثيرة للجدل بشأن العلاقة الجدلية بين علم الكلام والمجتمع، التي تشكل إضافة علمية ابستمولوجية مهمة وتوضح دلالاتها الدينية وابعادها المجتمعية وتفكيك بعض المقولات «التقليدية» التي خلعت عليها إسدال التقديس من قبل الفاعلين الاجتماعيين.
ارتبط علم الكلام (Theology) منذ نشأته الأولى بمشكلات المجتمع المتعدد الثقافات. فعلى رغم انه يبحث في ذات الله إلا انه لم يكن مجرد تأمل تجريدي لعلماء الكلام يقف بمنأى عن كل ما يحدث في المجتمع من صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ذلك أن علماء الكلام هم أفراد في المجتمع يتأثرون ويؤثرون فيه ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات، وعلى رغم أنهم يزعمون انهم يقفون فوق المجتمع بفضل علومهم القدسية.
إن التعرض لهذه العلاقة المعقدة في اسئلتها الكثيرة ومفارقاتها الفائقة الدقة وكذلك في منهجيتها الابستمولوجية والانثروـ سوسيولوجية، أمر ليس بهين، محاولين قدر الإمكان التعرض بإيجاز لأهم الموضوعات والقضايا التي ترتبط بها وعوامل تشكيل الوعي الإسلامي والهوية ورموزها التي أدت إلى وحدة الفكر الإسلامي وازدهار علم الكلام وتطور الفكر العقلاني ـ التنويري لدى الفلاسفة المسلمين.
ان تشكيل الوعي الاجتماعي والهوية الدينية بمختلف رموزها وخصوصا العلاقة بين الإنسان والله وبين الفرد والجماعة وبين العقيدة والمسئولية وكذلك تشكيل صورة الرسول من خلال القرآن والسنة لم تحدث مرة واحدة، وانما تطورت مع الحوادث التي رافقت انتشار الإسلام في الأمصار المختلفة. وقد ارتبطت هذه التطورات بوحدة الأمة ووحدة الفكر الإسلامي واثرت بدورها على تطور علم الكلام وازدهاره في البصرة ثم في بغداد، مثلما اثرت على تطور المعارف والعلوم، وأنتجت انثروبولوجيا إسلامية كما عند ابن هذيل العلاف وكذلك تطور منظومة الفكر المعتزلي، كأول حركة عقلانية في الإسلام.
وعلى رغم التشابه بين النزعة التنويرية التي ظهرت في أوروبا إبان عصر النهضة وبين النزعة التنويرية التي ظهرت عند مفكري العرب والمسلمين في العصر الوسيط، علينا التفريق بين تيارين فكريين مازالا يتصارعان منذ القرون الوسطى حتى اليوم.
(1) يتمثل التيار الأول بالنزعة اللاهوتية المركزية،
(2) والثاني بالنزعة الإنسانية المتمركزة على الذات.
(1) وقد تجسد التيار الأول لدى المفكرين المسلمين ويتخذ من النصوص الدينية المقدسة مرجعية له.
(2) أما الثاني فقد تجسد لدى الفلاسفة العرب والمسلمين واتخذ من افلاطون وارسطو طاليس مرجعية له.
غير ان عصر النهضة الأوروبية هو وحده الذي تجرأ على حوادث قطيعة مع علم اللاهوت وحقق للفلسفة استقلاليتها الكاملة، في حين لم تستطع النزعة الإنسانية العربية ـ الإسلامية تحقيق استقلاليتها كاملة من المرجعية الدينية. فالفلاسفة الكبار، كالفارابي وابن رشد بقيا خاضعين في نهاية المطاف إلى المرجعية الدينية. ولذلك، كما يقول آركون، فإن عصر التنوير الأوروبي هو أول عصر حقق الاستقلالية الكاملة للعقل بالقياس إلى النقل.
وهكذا نجد ان الاشكالية المركزية التي تتحكم بالفكر أو العقل العربي هي عدم التعارض مع النصوص الدينية الكبرى.
ومن الممكن التفريق بين ثلاثة تيارات أساسية حددت هذه الاشكالية المركزية وهي:
(1) التيار التقليدي الذي يقول بأولوية النقل على العقل،
(2) التيار العقلاني الذي يقول بأولوية العقل من دون ان ينفي النقل أو يتجرأ على إعلان الخروج عليه،
(3) التيار الصوفي الذي يقوم على التجربة الروحية والاستبطان الداخلي والتأويل الرمزي للنصوص.
يتمثل التيار الأول في جميع المبادئ الإسلامية التي تخضع للموقف التقليدي إذ يكون العقل بالنسبة له أداة طيعة في خدمة النص، وهي بعيدة عن النزعة الإنسانية، ولذلك ضعفت عندها الثقة بالإنسان وبفكرة الابداع والتقدم وبقيت في تدهور وانحطاط حتى القرن التاسع عشر واستيقاظ العرب والمسلمين على صدمة الحداثة الأوروبية.
اما التيار الثاني الذي يقول بأولوية العقل على النقل فقد مثل حركة التنوير العربية ـ الإسلامية في العصر الوسيط، تلك الحركة التي تحتاج إلى قراءة متأنية لمسيرة العقل والعقلانية في الإسلام وكيفية تشكل هذا العقل وتطوره وانشغالاته وتأثيره في تطور الحضارة العربية ـ الإسلامية وازدهارها. ففي عصر التنوير الإسلامي كان للعقل مكانة خاصة في الفكر الإسلامي لا مثيل لها في النصوص المتأخرة. فعلى رغم أن الصوغ اللغوي الخاص بالقرآن يختلف كثيرا عن الصوغ الذي جاءت بها الأحاديث في علم الكلام والفلسفة، فإن مفهوم العقل في القرآن «هو عقلي تجريبي» و»ليس عقلا باردا تأمليا أو استدلاليا برهانيا». وما جاء في القران من عبارات من نوع «افلا تنظرون» أو «افلا تعقلون» لا تعني الدعوة إلى استخدام العقل، أو التحليل المفهومي ، أو المنطقي للظواهر، لان مثل هذا التحليل انما ظهر لاحقا، أي بعد دخول الفلسفة الاغريقية إلى العالم الإسلامي، وهي المرحلة الثانية التي شهدت نشوء العقلانية وازدهارها، عندما دخل العقل الإسلامي ولأول مرة في مواجهة مباشرة مع العقل الفلسفي والعلمي الإغريقي، الذي انبثق من خلال الصراع مع المعرفة الأسطورية وضدها. وهو ما جسده فكر المعتزلة التحليلي المستقل الذي أسس البدايات الأولى لنشوء الفلسفة الإسلامية.
الفكر المعتزلي
إن صوغ المعتزلة للمسألة الدينية صياغة عقلانية واضحة لا تقتصر على وحدانية الله وحسب، بل تناولت النبوة والإيمان والأخلاق، ولم يعد النقل محور المعرفة، وإنما العقل، الذي شكّل في الحقيقة، تحولا حاسما في تاريخ الفكر العربي الإسلامي اذ اخذ المرء مذاك يجرؤ على أن يخضع الوجود كله لمقاييس العقل وأحكامه وينظم العالم الديني والأرضي تنظيما عقليا. وقد ارتبط التوكيد على العقل بالتوكيد على الحرية، فلا عقل دون حرية ولا حرية من دون عقل، والعقل يفهم الواقع، والحرية تغيره اوتعيد تشكيلة وفقا للعقل.
وهذا القول يعني مبدأ استقلال العقل، الذي يستطيع الإنسان بموجبه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر.
إن اعطاء العقل هذه الأهمية الأولية، انما يعني ردا مباشرا على الذهنية التقليدية التي تقول بعجز الإنسان عن بلوغ الحق والخير بعقله أو بقدرته الإنسانية وحدها. وبهذه الصيغة فصل المعتزلة بين الدين والسياسة، على رغم أنهم رأوا بأنه لا يوجد بين العقل والدين تناقض . وكان التوحيدي نموذجا للمثقف المتحرر من كل وصاية الذي عبر عن مساحة كبيرة عن الرأي الحر وأسس الحداثة، التي نشأت في مناخ عقلي فيه كثير من الحرية والجرأة، وكانت له قناعة تامة، بأن استبداد السلطة ينبع في كثير من الأحيان من خنوع الناس وخضوعهم وخصوصا طبقة الكتاب الذين يمثلون انتلجنسيا ذلك العصر. وكان التوحيدي قد انتمى إلى إحدى الحركات السرية في بغداد وشارك في كتابة «رسائل اخوان الصفا» التي كانت محاولة تنويرية تهدف إلى تغيير المجتمع بواسطة الثقافة والعلم والفلسفة. وبهذا مثلت رسائل اخوان الصفا، الصيغة المثالية للمثقف الفيلسوف الذي لم يتورط في خدمة السلاطين.
اما ابن حزم فقد رأى بأن استخدام العقل في الأمور الدنيوية بطريقة منطقية كفيل بحل اكبر المشكلات واعقدها وذلك لان الإنسان امتاز على سائر المخلوقات بعقله، الذي بموجبه يستطيع طرد الهموم من تفكيره والسيطرة على انحراف الإنسان هو الطريق القويم.
ويعد ابن مسكويه المتوفي عام 1030 فيلسوفاً ومؤرخا كبيرا جمع معارف كثيرة في علوم القرآن والحديث إلى فلسفة أرسطو وأفلاطون، إضافة إلى معرفته بالتراث الأدبي والفلسفي الإيراني القديم. ويعتبر كتابه «تهذيب الأخلاق» الأهم بين كتبه لأنه حصيلة سنوات طويلة من الدرس والبحث والتأمل، وشكل نظاما في البناء الفلسفي الرصين، الذي تمخض عن برنامج تربوي يؤسس لعلم أخلاق يقوم على الميتافيزيقيا وعلم الكون.
إن أمثال هؤلاء الفلاسفة عملوا جاهدين على تعميق الفكر الإنساني المتفتح على العلوم الدنيوية والعقلانية وتوسيع دائرة نشرها عن طريق منهجية أدبية جمالية جذابة، مثلما فعل أبو حيان التوحيدي الذي سمي «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة» فهو لا يتحدث عن الفلسفة بشكل جاف، كما فعل ابن رشد أو الفارابي، وإنما تحدث بشكل حي ومنعش وبأسلوب أدبي رفيع.
اما التيار الثالث فهو التيار الصوفي الشعبوي الذي نشأ وتطور في تربة سياسية متمردة وكرد فعل روحي واجتماعي على الأوضاع الاجتماعية السائدة ومحاولة لتحدي السلطة، التي حرفته بضغوط سلطوية تسلطية وحولته إلى زوايا وحلقات دروشة معزولة عن تيار الحياة الاجتماعية. وقد انتشر التصوف الشعبوي في العالم الإسلامي ونشأت فرق وأنظمة وطرائق صوفية عدة، لكل منها طريقتها الخاصة في مجاهدة النفس. غير إن الانحطاط التدريجي في الفكر والممارسة، بشأن التصوف الفلسفي إلى مجرد طقوس جامدة ممزوجة بكثير من البدع والشعوذة والخرافات.
وقد ظهر التأثير السلبي للدروشة بصورة واضحة في فترة الانحطاط الحضاري عندما اتخذت بعض الفرق الصوفية، مواقف سياسية ومصلحية مؤيدة للحكومات المستبدة، ومن ثم للسلطات الاستعمارية، كما حدث في نهاية الدولة العثمانية وكذلك في المغرب العربي.
إن فشل حركة التنوير العربية ـ الإسلامية لا يرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما بانفصال النظرية عن الممارسة العملية التي حملتها الطبقة الوسطى والمثقفة (الانتليجنسيا) التي كان من المفروض أن تحمل على اكتافها مبادئ التنوير والعقلانية وتواصل مسيرتها بدون هوادة أو كلل، ولكنها حالما وصلت الى السلطة ،كما حدث في زمن المأمون، تنكرت لمبادئها وافكارها الثورية، واخذت تقمع بدورها خصومها وما تحمله من مبادئ وما قالته في خطبها وما دونته في كتبها. وكان محمد بن عبد الملك الزيات، الذي قال بأفكار المعتزلة وتبنى مقولاتهم، انقلب انقلابا كبيرا عندما وصل إلى السلطة وتحول إلى جلاد مستبد لم تعرف الخلافة مثيلا له. ويعود ذلك إلى أن العقل ظل إيمانا ينطلق من مقدمات شرعية لا شك فيها، بمعنى انه ظل أسطوريا وبعيدا عن التجربة والممارسة العملية والتساؤل المستمر.
أفول العقلانية
إن انتقال الحضارة العربية ـ الإسلامية من المشرق إلى المغرب والأندلس، إلى جانب العوامل الأخرى التي تحدثنا عنها ، ساعد على أفول النزعة الإنسانية والعقلانية وتغير المواقف الفكرية والفلسفية، وخصوصا بعد الانتكاسة التي واجهتها الفلسفة العقلانية بعد هجوم الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» على دور العقل والعقلانية في التراث الإسلامي وسيطرة النص الجامد وتأصيله وكذلك سيطرة التيار اللاعقلاني الذي كان من شأنه تحجيم قيمة العقل والعقلانية وإعادة الاعتبار إلى المنطق الأرسطي الذي تم تجاوزه وترجيح الموقف الديني الذي يرى بان العقل قاصر على الاستقلال الفكري ولا بد له أن يكون خادما للنص الديني الذي لا يقبل النقاش والنقد، لأنه يمثل الوحي، وانتشرت مقولة السيوطي «من تمنطق فقد تزندق» ، فالمنطق يؤدي إلى تحريك الفكر والشك والفلسفة وهو ما يؤدي إلى الكفر والإلحاد.
إقفال باب الاجتهاد
ان اقفال أبواب التفكير العقلاني النقدي وكذلك القياس والاجتهاد، ادخل الامة في مأزق حضاري وحول الفقه إلى أداة مدجنة بيد فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين. وهكذا توقفت مغامرة العقل الإسلامي في مواصلة تحدي الظروف والشروط التي هيمنت على المجتمع آنذاك، ما فسح المجال للطاعة العمياء والرضوخ، الذي رسخ الوعي الأسطوري وسهل الانحدار نحو عصر التخلف والظلام. إن تفكك الدولة العربية والإسلامية في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي وظهور الأزمات والتأزمات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتفاقمها، أدى لاحقا إلى احداث تغيرات بنيوية طالت ميزان القوى لمصلحة أوروبا. وقد رافق ذلك اضمحلال التجارة وسيطرة التجارة الأوروبية على موانئ البحر الأبيض المتوسط وظهور ملامح عصر النهضة في أوروبا بدءا من حركة الاستكشافات الجغرافية والتوسع الاستعماري لأوروبا فيما وراء حدودها الجغرافية، إضافة إلى بدايات التقدم العلمي والتقني بظهور نظريات كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي وديكارت وكيبلر ونيوتن وسبنيوزا وكانت وهيغل وغيرهم، في حين دخل العرب والمسلمون في عصر الظلام، فلم يظهر خلال تلك الفترة عالم أو مفكر أو فيلسوف وفي جميع انحاء العالم الإسلامي بعد موت ابن خلدون، الذي أرّخ لأفول الفكر والفلسفة والعلوم في العالم العربي والإسلامي، ولبداية عصور مظلمة استمرت حتى القرن التاسع عشر وظهورمصلحين جدد أمثال الطهطاوي والأفغاني وعبده وغيرهم، الذين انبهروا بأنوار أوروبا وتقدمها العلمي والتقني وشعروا بتأخر الشرق وتخلفه، ما سبب صدمة نفسية ومركب نقص حضاري مازالت أصداؤها تؤثر في نظرة العرب والمسلمين إلى الذات والى الآخر حتى يومنا هذا.
إبراهيم الحيدري – استاذ وباحث في علم الاجتماع مقيم في بريطانيا
_____________________________
«علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة»
يعتبر كتاب «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة» بأجزائه الستة، من أهم أعمال المستشرق الألماني جوزيف فان أس، وصدرت أخيراً ترجمة الجزء الأول منه إلى اللغة العربية عن «منشورات الجمل» وترجمة سالمة مصالحة، ويتناول فيه ملامح التدين الإسلامي في القرن الأول للهجرة، وفي مختلف المقاطعات الإسلامية في القرن الثاني.
ويرجع جوزيف فان أس، وهو أحد كبار المستشرقين الألمان، إلى القرون الأولى للإسلام، كي يبحث في التفكير الديني والاجتماعي والسياسي للمسلمين خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، مثيراً جملة من الموضوعات والمفاهيم المتعلقة بالدين وبالمجتمع، والتي تمس جدل العلاقة بين الإسلام والمجتمع.
وينظر هذا المستشرق الكبير إلى الفقه بمعناه الأوسع، بوصفه الحديث عن الواقع الذي يحدده الدين والذي يستهدي بالوحي، مع إقراره بصعوبة الإمساك بقطبي العلاقة بوضوح، نظراً لأن الفترة المدروسة كان المجتمع فيها والفقه يبحثان عن هويتهما. لذلك يلجأ إلى تناول هذه العملية بحسب المدن والمناطق بشكل منفصل، محاولاً إعادة تشكيل الوضع الديني في المناطق المنفردة، ثم يحصر نظره في بغداد بوصفها حاضنة بلاط الخليفة في ذلك الوقت، ويبدأ من الأشخاص الذين يمتلكون تعليماً دينياً في القرن الأول، والذين كانوا يسمون القراء. ثم جرى التمييز تدريجاً بين الفقهاء والمفسرين والمتكلمين، حتى بقي من القراء فقط المتخصصون بقراءة القرآن. ويعدّ تفسير القرآن من أقدم فروع العلوم التي تتداخل فيه أعمال القراء والقصاص أو الرواة معاً. وكان الحجاج أول من أعطى موافقته على قيام أفراد بقراءة القرآن في المسجد خارج أوقات الصلاة، ثم قام الرواة بدورهم بإحاطة النص القرآني بتفسير تأويلي.
ويتتبع فان أس نشوء علم الكلام التناظري، إذ كانت المناظرات هي الوسيلة الحاسمة في نشر وتكريس وجهات النظر الدينية، وأدت إلى تطور فقه إسلامي بالمعنى الصحيح وهو علم الكلام. وكان على مبعوثي واصل بن عطاء أن يقدموا أنفسهم إلى الجمهور من خلال تقديم الاستشارات القانونية، واستمرت هذه الممارسة في التعليم القانوني قروناً، لكن من الصعب معرفة الفترة التي أجريت فيها المناظرات للمرة الأولى بين مسلمين وغير مسلمين أو بينهم وبين إخوانهم في العقيدة، إلا أن الواضح هو أن المناظرة استخدمت كسلاح من قبل جماعات المعارضة، لأنها كانت تعاني من مشاكل الشرعية. أما تسمية المتكلمين، فإن الحديث كان يجري في البدايات عن المتكلمين بين القادة، أي «الذين يدلون بالتصريحات تحت أمر القائد»، ولم يصبح المصطلح بعد مكتملاً، مع أن المتكلم ظهر مبكراً بمعنى متحدث له وظيفة معينة، أو تكلم بمعنى ظهر كمتحدث.
وكان يقصد بالمتكلم ذلك الشخص المتحدث باسم وفد أو جماعة، وقد يكون شاعراً او خطيباً أو حكيماً أو قاضياً، وقد نقل عن مفسر القرآن المكي مجاهد قوله: «اختفى العلماء ولم يبقَ سوى المتكلمين»، وكان يقصد بالمتكلمين مجرد أبطال اللسان، وحين كان المرء يتعلم الكلام، أي يتعلم اللباقة في الكلام، وفي زمن أبي حنيفة، أي منتصف القرن الثاني للهجرة كان الفقه يسمى الفقه الأكبر، ومن كان عالم دين ورجل قانون كان يسمى فقيهاً. أما في زمن الجاحظ فقد استخدم مصطلح «المتكلمون» بشكل واسع، إذ كان الأطباء أيضاً متكلمين إذا اهتموا بالفلسفة وعبروا عن أرائهم في العلن، وأحياناً لا يكاد يعني المتكلم بالنسبة إلى الجاحظ أكثر من «مثقف»، ولكن بالنسبة إلى الفقهاء تعتمد الكلمة من دون النظر إلى المدرسة من الأرازقة إلى المعتزلة. وكان الجدل مع غير المسلمين من أكثر المجالات التي أظهر فيها المتكلمون كفاءاتهم، الأمر الذي أفضى إلى اكتساب الفقه الإسلامي ملامحه في الطرق.
ويرى فان أس أن طريقة علم الكلام كانت تعتمد في البدايات على بنية المحاججة في القرآن، التي يكمن أصلها في المناظرات، حيث الأسئلة المستفزة والمسرّة التي تنشأ عن الدفاع حول المسائل الدينية بطريقة ديالكتيكية مع الآخرين، ورأى الجاحظ «من البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم». لكن كلما أصبح علم الكلام الإسلامي قضية متخصصين، أي متكلمين، كلما تسربل بلغة متخصصة وأصبح غير مفهوم للهواة حتى للمتعلمين منهم. ويعتبر فان أس أن سورية والحجاز كانتا منذ العصر العباسي زاويتين ساكنتين، لم تعودا تؤثران في تطور الفقه، في حين أن العراق وإيران طبعتهما تناقضات مثمرة، فاستخدم الخلاف في الآراء أدوات الكلام بصورة متزايد. وتدفق المثقفون من جميع المناطق والمراكز الحضارية الأخرى إلى بلاط الخليفة في بغداد، لإجراء المناظرات الفكرية التي تحولت إلى تقليد ثقافي نهض على التسامح والحوار، وساعد على تنشيط الحركة الثقافية والعلمية وفجر إشكاليات تأويلية نقدية تخص حقيقة التراث، وأدى إلى قيام المدارس والجامعات، فتطور علم الكلام ليصبح مناظرة بطولة فكرية، وعليه يدرس فان أس مختلف هذه المناطق متتبعاً ملامح تطور علم الكلام والمجتمع فيها.
ويطاول البحث دور المثقــــفين في نشأة علم الكلام منذ الخلافة الأموية حتى نهاية القرن الثالث للهجرة، حيث دخل الاعتزال آخر مراحله المدرسية، لتبدأ مرحلة مهمة أخرى في تاريخ علم الكلام وهي علم الحديث. لكن فان إس يشير إلى أن جميع ما يرتبط بالقرن الأول للهجرة من أحاديث كان يدخلها الشك لاختلاف الآراء حولها، وعليه فإن من الصعب إصدار حكم، وإذا صدر أي حكم فهو غير دقيق.
والحاصل هو أن علم الكلام ارتبط، منذ نشأته، بإشكاليات وقضايا المجتمع المتعدد الثقافات، ولم يقتصر هذا العلم على البحث في ذات الله، كما لم يكن مجرد تأمل تجريدي للعلماء، أي لم يكن بمنأى عن كل ما كان يحدث في المجتمع من صراعات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، فكان علماء الكلام أناساً يعيشون في المجتمع، يتأثرون به ويؤثرون فيه، ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات. وارتبطت التطورات بوحدة الأمة ووحدة الفكر الإسلامي، وأثرت بدورها على تطور علم الكلام في بغداد وسواها، مثلما أثرت على تطور المعارف والعلوم. وأنتجت القرون الأولى من العصور الإسلامية مجتمعاً، كان في بداية تكونه ووحدته، وفي بداية انفتاحه على الآخر، وتمكن من أن يستمع إلى ما يقوله علماء الكلام وأن يتقبله برحابة، وأن يجعله محوراً لتشكيل مختلف مناحي الحياة.
ويبدو أن فان إس انطلق في كتابه إلى التساؤل عن الأشياء ذاتها، وإلى كتابه ما يشبه سيرة جماعية لمختلف الفاعلين الاجتماعيين في الفترة المدروسة، وذلك بغية معرفة دور الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قامت منذ بداية تكوين الفرق الإسلامية وتحديد أهميتها. بمعنى أن بحثه استند إلى منهج يجمع بين السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، مع ميله الشديد إلى الدقة الأكاديمية. ونظر وفق ذلك إلى مختلف المقاطعات أو الأمصار في الإسلام، بوصفها دوائر حضارية متداخلة في ما بينها، وينطبق ذلك على دراسته للإسلام ومراكزه الدينية وتطور العقيدة والفرق والمدارس الفقهية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مختصر تفسير الحزب الأول... سورة البقرة الجزء الأول

الجزء الأول من القران: هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع: - ربع الحزب الأول: يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف. - الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام. - الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.  - الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف.  تجربة سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض. ثم بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف! وآخر ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة الفاشلة، للت
"ميسرة المطغريّ" (أو المدغريّ) بطلٌ أمازيغيٌّ، رفض الانصياع للعرب الفاتحين، ما جعلهم يصفونه في كتب تاريخهم بالحقير، والخفير، والفقير، والسقّاء. ولربّما ترجع هذه الألقاب إلى كون "ميسرة" ينحدر من عائلةٍ فقيرةٍ، وأنّ أباه، أو هو نفسه كان سقّاءً يبيع الماء في الأسواق (E. L?vi-Proven?al). وقد أجمع أكثر المؤرّخين (العرب طبعاً) على تلقيب ميسرة بـ "الحقير"، على الرغم من أنّه لم يكن في حياته حقيراً؛ فقد كان ـ كما يقول ابن خلدون ـ شيخ قبيلته والمقدّم فيها؛ وكان من خوارج المغرب الصفريّة، من مدغرة أو (مطغرة)، وهي بطنٌ من زناتة. كما كان من أتباع المهلّب بن أبي صفرة (أو من أتباع زياد بن أبي صفرة). وفي العودة إلى الوقائع التاريخيّة، نجد أنّ الظلم الأمويّ كان من الأسباب المهمّة في بحث المسلمين عموماً عن أفكارٍ ثوريّةٍ تُشرّع لهم مواجهة الظّلم والتعصّب القوميّ والقبائليّ، وهو ما تُظهره تجربة البربر في الغرب، حين مالوا إلى الفكر الخارجيّ، بعد معاناةٍ طويلةٍ مع السلطة الأمويّة، وبعد الإجحاف الذي طالهم، إثر دورهم الرئيسيّ في فتح الأندلس، وفي تثبيت